في تلك الأمسية التي تجمع فيها كبار الدولة داخل القصر، كان كل شيء يبدو عاديًا حتى بدأ الشيخ سيد النقشبندي ابتهاله. ارتفع صوته في القاعة كضوءٍ يتسلل من بين الغيوم، صوت لم يكن مجرد أداء… بل حالة روحية كاملة جعلت الجميع يصمتون دون أن يُطلب منهم ذلك. كان الرئيس أنور السادات يستمع، ومع كل طبقة من طبقات الصوت، كان يشعر أن الروح تقترب من شيء لا يُرى. التفت ببطء وقال لمن حوله:
“النقشبندي لازم يغنّي من ألحان بليغ.”
لم يكن أحد يتصور أن الجملة العابرة تلك ستكون بداية ولادة عمل لا يشيخ.
بعد أيام، وقف بليغ حمدي في غرفته، تحيط به الآلات والأوراق، لكنه كان يشعر أن شيئًا ما ينقصه. كان يدرك أنه سيقابل صوتًا لا يشبه أحدًا، وكان مترددًا: هل يستطيع لحنٌ أن يتساوى مع هذا العمق؟ وحين دخل النقشبندي عليه لأول مرة، حدث ما يشبه التعارف القديم. لم تكن بينهما رسميات، بل لحظة صافية أحس فيها كل واحد بأنه يقابل جزءًا من الروح التي تكمل موهبته.
أعطاه النقشبندي كلمات “مولاي إني ببابك”.
أمسك بليغ الورقة وكأنها شيء ثمين، وقرأ الكلمات ببطء… ثم شعر أن الليل يدعو الموسيقى للنزول.
في تلك الليلة، لم يكن وحده رغم أنه كان بمفرده. جلس أمام العود، وبمجرد أن لمس الأوتار خرجت نغمة ليست من عالم العادة. نغمة فيها خشوع، وفيها سؤال، وفيها انحناءة قلب. نغمة لم يحاول تشكيلها، بل تركها تتكوّن كما تريد. وكأنه يسمع شيئًا خفيفًا يهمس له من مكان أعلى.
ومع أول ضوء للفجر، كان اللحن قد اكتمل… لا بطريقة تدريجية، ولكن بطريقة تشبه ظهور الحقيقة مرة واحدة.
عندما استمع النقشبندي إلى اللحن لأول مرة، أغلق عينيه، وتنفس بعمق، ثم قال:
“ده لحن فيه سجدة.”
وبدأ الإنشاد.
لم يعد الشيخ ينشد فقط، بل كان يرفع الكلمة كمن يقدّم شيئًا مقدسًا. وبليغ كان يتابع بأنفاس متقطعة كأنه يخشى أن يفسد الحدث بأي حركة.
انتهى التسجيل، لكنه لم ينتهِ في الحقيقة. السكون الذي تبع اللحظة كان أبلغ من أي تصفيق. نظر بليغ إلى الشيخ وقال بصوت منخفض:
“ده مش شغل إيد… ده شغل رباني.”
وهكذا وُلد العمل… من نظرة رئيس، ومن روح منشدٍ يلامس السماء، ومن موسيقار يكتب بمشاعره قبل أوتاره.
ومنذ ذلك اليوم، كلما قيل: مولاي إني ببابك… شعر السامع أن هناك بابًا يُفتح، وأن اللحن لا يزال يهبط، بالهدوء نفسه، والرهبة نفسها، والدهشة التي لا تهدأ



