في صميم التحوّل الرقمي الذي تعيشه المملكة العربية السعودية ضمن رؤيتها الطموحة 2030، تتسارع الخطى نحو دمج الذكاء الاصطناعي في قطاعات الحياة كافة؛ من الاقتصاد إلى الصحة مروراً بالتعليم وانتهاءً بالترفيه… غير أن هذا السباق التقني، وإن كان واعدًا في ظاهره، يطرح تساؤلًا جوهريًا في ميدانه التربوي:
هل نعد أبناءنا ليكونوا مستخدمين مسؤولين لهذه التقنيات؟ أم نكتفي بتعليمهم مهارات سطحية دون بوصلة أخلاقية توجه قراراتهم الرقمية؟
في منصات التواصل الاجتماعي التي يقضي فيها الطالب السعودي ساعات يومه، لم تعد مجرد أدوات ترفيه؛ حيث باتت فضاءات لإعادة صياغة الرأي والهوية والانفعال عبر تقنيات خفية، في مقدمتها الذكاء الاصطناعي. وتشير دراسة حديثة لـ Vivian et al. (2025) إلى أن 4 من كل 5 مراهقين يتعرضون لمحتوى خاضع لتوجيه خوارزمي دون إدراك لخلفيته أو أهدافه. وهذه الحقيقة تفرض على التربية ألا تظلّ متأخرة عن أدوات الواقع، ولكن يجب أن تُبادر إلى بناء وعي خوارزمي أخلاقي في عقول النشء.
إن الخطر في الذكاء الاصطناعي يكمن في قوّته وفي الاستخدام غير المنضبط له. فنحن نشهد اليوم:
-انتشار فيديوهات مُفبركة تستغل الذكاء الاصطناعي لتضليل المشاهد.
-تنمّر رقمي بصيغ جديدة كتحوير الصوت والصورة؛ مما يصعب تتبعه قانونيًا.
- توصيات منصات تخلق فقاعات فكرية تدفع الفرد للانغلاق المعرفي دون وعي.
تقول الباحثة Christoforou (2025): “حين يُستخدم الذكاء الاصطناعي في سياقات اجتماعية بلا إطار قيمي، فإنه يتحول من تقنية إلى قوة سيطرة ناعمة.” وهنا، تكون التربية هي خط الدفاع الأول، لا الحجب ولا التقييد.
وفي السياق التربوي السعودي، لا بد أن تتحول المناهج الدراسية من تعليم الأدوات إلى غرس منظومة قيمية رقمية. وهذا يتطلب: - تضمين مادة مستقلة أو وحدات مدمجة عن “أخلاقيات الذكاء الاصطناعي”.
- مناقشة حالات حقيقية من الاستخدامات المنحرفة وطرق معالجتها.
- تدريب الطلبة على تحليل ما يُعرض عليهم من محتوى بوعي نقدي وتربوي.
وتُظهر دراسة Sulashvili et al. (2025) في السياق الأوروبي أن إدخال محاور الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في المناهج أدى إلى تراجع مؤشرات السلوك الرقمي السلبي بنسبة 22%. أما في النموذج الهندي، فقد أقرّت وزارة التعليم أن أحد أهداف منهج الذكاء الاصطناعي هو: “تمكين الطلاب من استخدام التقنية بوعي أخلاقي، يوازن بين الإبداع والسلامة الرقمية.”
كما أن الطالب اليوم يتعلّم الحساب واللغة، فلا بد أن يتعلّم أيضًا التمييز بين الذكاء والمخادعة الرقمية، وبين الحرية والاستخدام المنفلت، وبين الحقائق والخوارزميات الموجهة.
قال يوهان هربارت: “كل تعليم لا يُبنى على الأخلاق، هو تربية ناقصة.”
ولنا أن نقول في زمن الذكاء الاصطناعي: “كل تعليم تقني لا يُبنى على المسؤولية الرقمية، هو مدخل لانهيار القيم.”
في مملكة تصوغ مستقبلها برؤية تقنية طموحة، لا يمكن أن يُترك جيلها الرقمي بلا درع معرفي يحميه من زيف المنصات وسحر الخوارزميات. إن إدماج “الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي” في صميم المناهج الدراسية أصبح مسؤولية وطنية وقيمية. فحين تتحول التقنية إلى ثقافة، فإن التربية وحدها هي القادرة على أن تجعل منها ثقافة بناء لا أداة استلاب.
بقلم –
د.علي بن محمد الجديع
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود