لم أعد أذكر كم مرة مررت بجانب الألم دون أن أنتبه له، حتى قرر أن يسكن ركبتي اليمنى، ويؤثثها بطنين الاحتكاك وسعال الغضروف المتآكل.
لم أعد أمشي، فقط أساير الزمن بخطًى تجرّها الخشونة وتخدرها المسكنات.
منذ سنوات وأنا أتنقل بين المراهم والدهانات، أستوردها من الشرق والغرب، وأتناول معها كل ما يُقال عنه “مكملات”، حتى صارت معدتي خلاطًا دوائيًا، تتصارع فيه أقراص الدوروفين والكولاجين مع مسكنات الباراسيتامول وأوهام الدهانات التايلندية.
ثم جاءت النصيحة من أقرب الناس، من أم يوسف، التي تعرف كيف تسوق كلمتها بين الألم والرجاء. قالت:ـ فيه دكتور جديد، يعالج الألم.
استغربت، وقلت في نفسي: وهل للألم طبيب؟لكنني حجزت، فالرجال إن تعبوا استسلموا بصمت، وإن أوجعهم العظم ركضوا خلف الأمل، ولو كان في قنينة بلاستيكية.
قابلت الدكتور أحمد، شاب من الطائف، صوته هادئ كنسائم الهدا، وعيناه تشبهان تلك الليالي التي لا تقول كل شيء ولا تخفي شيئًا.
أثناء حديثنا، أخبرني أنه يقرأ الروايات، فابتسمت. قلت له:ـ إذن ستفهمني… حتى إن لم أشتكِ.تحدثنا كثيرًا. شعرت أنني لا أشرح له الألم، بل أحكي له عن حالي المتعب.
وفي نهاية الزيارة، أعطيته نسخة من روايتي “ابنة ليليت”، كصوغة طبية تعبر عن نبض شخصي.حدد لي موعدًا للعملية، وقال لي:ـ هي من نوع “اليوم الواحد”… تدخل وتخرج وكأن شيئًا لم يكن.
دخلت غرفة العمليات كمن يدخل حلمًا لا يعرف نهايته، وخرجت إلى البيت بخطوة أقل ألمًا، وروحٍ أقل تعبًا، وأكثر تفاؤلاً.وقبل أن أودّعه، قال:ـ الأسبوع القادم سأتمتع بإجازتي الصيفية، وسآخذ معي “ابنة ليليت”.
نقرأها معًا أنا والبحر.ابتسمت، حامدًا الله على أن هذا الوطن بات فيه طب يشبه الحنان، وأنني لم أضطر لحمل ألمي إلى غربة لا تفهم لهجتي.
وفي طريق العودة إلى البيت، سرحت.كنت أفكر في السؤال الذي يتسلل إلى عقلي كلما استمعت إلى فهد بن سعيد: “يا ناس مال الهوى دكتور…”وسمعت صوت محمد عبده يردد: “رحت يم الطبيب اللي يداوي الجروحي… قال جرح المودة ما يسر الدوا به.
”ثم جاءني صدى فهد بلان:“جس الطبيب لي نبضي، فقلت له إن التألم في كبدي، وتخيلت… عيادة تختلف عن كل العيادات.
فيها مرضى لا يتوجّعون من الركب، ولا من فقرات الرقبة، بل من رسائل لم تُرسل، وأحضان لم تكتمل، وخيبات لا تُظهر في الأشعة.
ورأيتني أندس بينهم، وكلٌ يحمل في يده قصيدة، أو شريط أغنية، أو صورة باهتة.قالت لي امرأة في الخمسين :ـ أحببته ثلاثين سنة… تركني، وتزوج غيري.وقال شاب في الثلاثين:ـ اختارت غيري، وأنا اخترت الشعر والقصائد.
جلست هناك بينهم، أحمل قلمًا وورقة، أستمع، وأسجّل، كأنني أبحث عن روايتي القادمة، لا في الخيال، ولكن في قلوب ما زالت تنزف بصمت، تبحث عن طبيب للحب.عدت إلى البيت، وكنت أعرف أن الركبة ستشفى بإذن الله، أما قلوب العاشقين…فما زالت تنتظر دورها في عيادة لم تفتح بعد.