واللهِ ما كان أصعب من كتابة هذا الكلام… أشعر وكأن قلبي ينسحب من صدري مع كل حرف.
الكلمات تتكسّر تحت يدي، تهرب منّي، تتحول إلى غصة، إلى دمعة، إلى شيء يضغط روحي.
أنا لا أكتب مقالًا… أنا أكتب وجعًا.
أكتب سؤالًا يطاردني منذ أيام: هل تجردنا من مشاعرنا؟ هل تحوّلنا إلى قلوب صامتة لا يوجعها وجع أحد؟الحكاية ليست رواية… وليست خبطة صحفية…إنها إنسان ينهار.
إنها روح تطلب النجدة فلا يسمعها أحد.السيد الحراني… صديق العمر… الصحفي النضيف، الجدع، الشجاع، النبيل، الذي حمل قلمه مثل سيف، ووقف ضد الإخوان والمتطرفين، وكتب عشرات الكتب، وصنع انفرادات لا تُنسى…هذا الرجل يرقد الآن على سرير المرض، منطفئًا، مكسورًا، في نهاية الثلاثين فقط… شابٌ كان يناطح جبالًا، أصبح اليوم عاجزًا عن الوقوف.
المرض هجم عليه كوحش جائع.
جراحة دقيقة في العمود الفقري… تحسّن بسيط… ثم عودة الألم بأبشع صورة.
أصبح لا يستطيع المشي.
مجرد ذهابه للحمّام كان يكسّر عظامه!ثم جاءت الجلطة… جلطة وحشية تضرب ساقه كأنها النهاية.
والأقسى… والله إن هذا هو الأقسى…أنه يواجه كل هذا وحده.لا كبير من الصحفيين اتصل.
ولا صغير.
ولا زميل.
ولا صديق مهنة.
كأن هذا الرجل الذي كان نجمًا بالأمس ذاب اليوم في الهواء.له أطفال صغار… أكبرهم لم يدخل المدرسة بعد.
أطفال لم يروا أباهم إلا في فراش العجز.
أطفال لم يعرفوا معنى “بابا رايح الشغل” أو “بابا رجع فرحان”.
هل تتخيلون حجم الوجع؟ هل تتخيلون رجلًا شابًا يرى أبناءه يكبرون… وهو عاجز عن الوقوف؟
بالله عليكم… أين الإنسانية؟ تحدثت معه الليلة…صوته كان صوت رجل انتهى.
قال لي ببطء، بتكسير، بدمعة محبوسة:“أنا بتمنى الموت.”يا الله…أهذا هو سيد؟أهذا هو الصحفي الذي كان صوتًا في كل منصة، واسمًا في كل منبر، ومقاتلًا لا يتراجع؟
اليوم يقول: أتمنى الموت… لأنه لم يجد يدًا واحدة تمتد.
سألته:مين سأل عليك؟ كبار؟ صغار؟ رؤساء تحرير؟ زملاء كتبت معاهم؟ فقال… وكأنه يدفن نفسه:“ولا حد.
”وقتها شعرت أن شيئًا انكسر داخلي.
صرخت بداخلي جملة واحدة: هل تجردنا من مشاعرنا؟هل صارت الجماعة الصحفية التي تتصدر المشهد الإنساني عاجزة عن إنقاذ زميل؟هل صار مجلس النقابة مشغولًا بمعارك فارغة…
بينما زميل شاب ينهار ويتمنى الموت؟ أين الرجولة؟ أين الزمالة؟
أين كلمة: “إحنا معاك”؟ هل يوجد رجل أعمال… جهة… مؤسسة… قلب…يساعد في تسفيره للعلاج في ألمانيا قبل أن نفقده؟قبل أن نكتب خبرًا جافًا: وفاة الصحفي سيد الحراني بعد صراع مع المرض.
يا زملائي… يا أساتذتي… يا كل من عرف سيد…يا كل من يعرف معنى الإنسانية قبل المهنة…
هل حقًا تجردنا من مشاعرنا؟
هل تحوّلنا إلى جدران؟هل أصبحنا نكتب عن الإنسانية… ثم نفشل أن نُمارسها؟
يا رب… إما أن توقظ قلوبنا… أو ترحم هذا الرجل من عذاب لا يتحمله بشر.



