بقلم خالد سالم
كان يقف أمام المرآة كل صباح، ينظر إلى وجهه المُتعب، إلى الخطوط التي نحتتها السنوات والهموم حول عينيه. يمرر يده على شعره الذي بدأ البياض يغزوه مبكراً، ثم ينظر إلى ساعته المعصم القديمة – نفس الساعة التي اشتراها في يوم زفافه قبل عشرين عاماً.
لم يكن يعلم أحد أنه يقف كل ليلة أمام باب غرفة أطفاله، يستمع إلى أنفاسهم الهادئة، يتأكد أنهم بخير، أنهم يحلمون أحلاماً جميلة. كان يبتسم في الظلام عندما يسمع ضحكة صغيرة تفلت من أحدهم في نومه، ثم يعود إلى فراشه ليحدق في السقف، يفكر في فاتورة الكهرباء التي وصلت اليوم، وفي رسوم المدرسة المستحقة الشهر القادم.
“بابا، ليه مش بتشتري لنفسك حاجة حلوة؟” سألته ابنته ذات يوم وهي تراه يرتدي نفس القميص منذ سنوات. نظر إليها وابتسم تلك الابتسامة التي تخفي خلفها عالماً من التضحيات: “أنا عندي كل اللي أحتاجه.”
لم تفهم حينها أن كل ما يحتاجه فعلاً هو أن يراها سعيدة، أن يرى إخوتها يذهبون إلى المدرسة بملابس نظيفة وحقائب جديدة، أن يسمع ضحكاتهم تملأ البيت. لم تعلم أنه يحسب كل قرش ليوفر لها الألوان التي تحبها للرسم، وللولد الأصغر الكرة التي يحلم بها.
كان يجلس في العمل يتحمل نظرات رئيسه المتعجرفة، يبتلع كلمات الإهانة التي لو قيلت له في أي مكان آخر لما صمت عليها. لكنه كان يتذكر وجوه أطفاله عندما يعود للبيت، فيصمت ويصبر. “العيال عايزة تاكل” كان يردد في نفسه كلما هم بالرد.
في الليالي الطويلة، كان يحلم بأشياء بسيطة: أن يسافر مع عائلته مرة واحدة، أن يشتري لزوجته الفستان الذي أعجبها في المحل، أن يأخذ إجازة يرتاح فيها دون أن يفكر في شيء. لكنه كان يستيقظ كل صباح ليواجه نفس الروتين، نفس المسؤوليات، نفس الأحلام المؤجلة.
عندما مرض، لم يخبر أحداً. كان يذهب للطبيب سراً، يأخذ الدواء ويخفيه في درج مكتبه. لم يرد أن يقلق أحداً، لم يرد أن يصبح عبئاً. كان يعلم أن مرضه سيعني مصاريف إضافية، وهذا شيء لا يحتمله ميزان البيت المشدود أصلاً.
“أنا تعبان” قالها أخيراً لزوجته في ليلة كان فيها الألم أقوى من قدرته على الصمت. لم يكن يشكو من التعب الجسدي فقط، بل من تعب الروح، من حمل العالم على كتفيه لسنوات دون أن يجد من يقول له “أنت تعبت كفاية.”
كان يتمنى أحياناً أن يكون طفلاً مرة أخرى، أن يجد من يحتضنه عندما يخاف، من يطمئنه أن كل شيء سيكون بخير. لكنه كان الأب، كان الصخرة التي يستند عليها الجميع، والصخور لا تبكي، لا تتعب، لا تحتاج للراحة.
وفي النهاية، كانت أعظم لحظات سعادته تلك التي يرى فيها ابنه يتخرج، ابنته تتزوج، أحفاده يلعبون في نفس الحديقة التي كان يأخذ أولاده إليها. كان يعلم حينها أن كل تلك السنوات من التعب والصمت والتضحية لم تذهب سدى.
“الأم تحملك تسعة أشهر، والأب يحملك العمر كله” – هكذا كان، وهكذا سيبقى، حتى آخر نفس في حياته.
رحم الله آباءنا الذين رحلوا، وحفظ لنا من لا يزال بيننا.
بقلم: خالد سالم