في السنوات الأخيرة أصبح من اللافت أننا نتعامل مع الدين باعتباره المظلّة التي يجب أن تظلل كل مجال، من التعليم إلى الرياضة، ومن الاقتصاد إلى الإعلام ، وكأن وظيفة الدولة ليست إدارة المصالح العامة، بل إعادة إنتاج خطاب وعظي جماعي.
وعلى مسار موازٍ خرج منشور من مكتب رئيس الهيئة الوطنية للإعلام يطالب العاملين بعدم الظهور في أي ندوة أو وسيلة خارجية إلا بموافقة مسبقة وكأننا عدنا إلى زمن الصوت الواحد الصوت المفلتر عبر البيروقراطية الثقيلة. وهنا لا نجد الدين حاضرًا بشكل مباشر لكنه يصبح خلفية صامتة تبرر التضييق وتدفع الإعلام نحو خطابٍ واحدٍ مغلق.
الخطورة أن هذا التوجه بشقّيه ـ السياسي والبيروقراطي يضع الإعلام في فخّ التديين غير المعلن: فكل نقد يُقرأ باعتباره خروجًا عن الإجماع، وكل مراجعة تتحول إلى مساس بالمقدس. ومع الوقت، يذوب الإعلام في خطاب دعوي، ويخسر وظيفته المهنية في صناعة وعي نقدي مستقل وفتح النقاش العام بلا خوف.
وليس بعيدًا عن المشهد المصري نرى تجارب دول أخرى كانت شاهدة على نفس المسار. إيران منذ الثورة الإسلامية جعلت الإعلام بوقًا للدين والسياسة معًا ففقد ثقة الشارع وانقسم الناس بين إعلام رسمي جامد وإعلام خارجي أكثر تأثيرًا. السعودية قبل سنوات عاشت تجربة مشابهة حين اختُزل الإعلام في خطاب وعظي، حتى جاء الانفتاح الثقافي ليكشف مدى الفجوة بين ما يُقال على الشاشات وما يعيشه المجتمع فعلًا. وكذلك تركيا بعد صعود الإسلام السياسي، تحوّل جزء من إعلامها إلى منابر دينية، فخسرت الصحافة المستقلة مكانتها، وأصبح الإعلام أداة في الصراع بدل أن يكون مساحة للنقاش.
هذه النماذج تؤكد أن تديين الإعلام لا يحمي الهوية ولا الدين، بل يقتل المهنة ويُفقد الدولة قوتها الناعمة. فالمجتمع لا يثق في إعلامه حين يتحول إلى خطبة، والمتلقي يهرب إلى منصات بديلة، غالبًا معادية للدولة ذاتها.
إن بناء الجمهورية الجديدة لا يتم بتديين الإعلام ولا بتكميم الأفواه، بل بإعلام مهني حر يوازن بين الحق في المعرفة والالتزام بالمسؤولية. إعلام يضع العقل في الصدارة لا أن يُصادره باسم المقدس.
فالهوية لا يحرسها منبر ولا الدولة تبنى بخطبة والإعلام الذي يلبس عباءة الوعظ يخسر جمهوره إلى الأبد.
كل عام وانتم بخير 2025