بقلم: الإعلامي خالد سالم
وقفت أمام هرم أوناس في سقارة، وأنا أحمل كاميرتي وأوراقي، في مهمة معاينة لتصوير فيلم وثائقي عن هذا الصرح التاريخي العظيم.
لم أكن أتوقع أن تكون هذه الزيارة بداية رحلة عميقة في أحد أهم الآثار الفرعونية التي لا تحظى بالشهرة الكافية رغم أهميتها الاستثنائية.
الانطباع الأولعلى عكس أهرامات الجيزة الشامخة، يبدو هرم أوناس متواضعاً في حجمه، شبه متهالك من الخارج.
لكن هذا المظهر الخادع يخفي وراءه كنزاً لا يقدر بثمن من المعرفة والتاريخ.
فهذا الهرم، الذي بناه الملك أوناس آخر ملوك الأسرة الخامسة حوالي عام 2375 قبل الميلاد، يحمل في جدرانه أقدم النصوص الدينية المكتوبة في تاريخ البشرية.
نصوص الأهرام: ثورة في التاريخ عندما نزلت إلى ممرات الهرم الضيقة، أضاءت مصابيحنا جدرانه المنقوشة بالهيروغليفية.
هنا، في هذا المكان، سُجلت لأول مرة “نصوص الأهرام” – مجموعة من التعاويذ والصلوات والطقوس الجنائزية التي كانت تُتلى لمساعدة الملك المتوفى في رحلته إلى العالم الآخر.كانت اللحظة مهيبة بكل المقاييس.
أن تقف أمام كلمات عمرها أكثر من 4400 عام، محفورة بدقة متناهية، يجعلك تدرك حجم الحضارة التي أنتجت هذا الإرث.
هذه النصوص لم تكن مجرد زخارف، بل كانت دليل الملك للخلود، خريطته للعبور إلى النجوم والانضمام إلى الآلهة.
التحديات التصويريةمن وجهة نظر مصور، يمثل هرم أوناس تحدياً فنياً كبيراً.
الممرات الضيقة، الإضاءة المحدودة، والحاجة للحفاظ على الآثار، كلها عوامل تتطلب تخطيطاً دقيقاً.
لكن الجمال الكامن في تلك الجدران المنقوشة، والهالة الروحانية التي تملأ المكان، تجعل كل صعوبة تستحق المواجهة.
خططنا لاستخدام إضاءة خافتة غير ضارة بالنقوش، وكاميرات صغيرة الحجم يمكنها التحرك في المساحات الضيقة، مع التركيز على إبراز تفاصيل النصوص وجماليات الخط الهيروغليفي.
أهمية هرم أوناس الحضاريةما يجعل هرم أوناس استثنائياً ليس فقط كونه يحوي أقدم نصوص دينية مكتوبة، بل أيضاً لأنه يمثل نقطة تحول في الفكر الديني المصري القديم. قبل أوناس، كانت هذه التعاويذ تُحفظ شفهياً وتُنقل من كاهن لآخر.
أما تدوينها على جدران الهرم، فكان يعني إضفاء الطابع الأبدي عليها، وضمان بقائها إلى الأبد.
هذه النصوص أثرت لاحقاً على “نصوص التوابيت” و”كتاب الموتى”، وأصبحت أساساً للعقيدة الجنائزية في مصر القديمة لآلاف السنين.
رؤية الفيلم
فيلمنا الوثائقي سيسعى لإعادة الحياة إلى هذا الصرح المنسي نسبياً.
سنروي قصة أوناس، الملك الذي حكم لأكثر من ثلاثين عاماً وأنهى عصراً ذهبياً من تاريخ مصر.
سنكشف عن معاني النصوص المنقوشة، ونستعين بخبراء المصريات لفك رموزها وشرح دلالاتها.
كما سنعرض الجهود الحالية للحفاظ على الهرم، والتحديات التي يواجهها في ظل عوامل التعرية والرطوبة.
كان في استقبالي المقدم عمر قاسم رئيس مباحث شرطة السياحة و الاثار لمنطقة سقارة و اصطحبني في الجولة الاثري و مفتش الاثار رجب داود و كانت معاينة متأخرة لتاريخ بلدي الذي اعتز به و لكنها كانت ممتعة بعد ساعات من المعاينة، خرجت من هرم أوناس محملاً بالإلهام والإصرار على إنجاز هذا الفيلم.
هذا الهرم ليس مجرد كومة من الحجارة، بل هو شاهد على عبقرية حضارة عرفت قيمة الكلمة المكتوبة، وآمنت بأن المعرفة هي مفتاح الخلود.
في عصرنا الحديث، حيث تتسارع الحياة وتُنسى الجذور، يقف هرم أوناس تذكيراً صامتاً بأن الحضارات الحقيقية هي تلك التي تترك وراءها إرثاً من المعرفة والفكر، لا مجرد آثار من الحجر.
وأنا على يقين أن فيلمنا سيكون جسراً يربط بين عظمة الماضي وفضول الحاضر، ليعيد لهذا الهرم المكانة التي يستحقها في وجدان كل محب للحضارة المصرية العريقة.خالد سالمإعلامي ومنتج أفلام وثائقية



