مع انبلاج ساعات الصبح الباكر من يوم الثلاثاء، كان الطريق إلى أشيقر يلمع تحت أشعة الشمس الأولى، والنسيم يتهادى بين الجبال والرمال، فيما نخيل الوشم يوشوش لنا أسرار القرون. كانت الدعوة الكريمة من الوجيه إبراهيم التويم – عرّاب مبادرة “الجريفة الثقافية” – بمثابة مفتاح لبابٍ من الزمن، فتحناه بصحبة وجوه أضاءتها الألفة، وقلوب تسبق خطى المركبات.
حين بلغنا دار الأستاذ إسماعيل بن إبراهيم السماعيل، وجدنا رجلاً يشبه أجداده من علماء أشيقر الأولين: مهيب الحضور، مترف الحرف، مغموس في مداد التراث. كان معلول الصحة، لكنه متوقد الفكر والذاكرة؛ تحدّث عن أبيه – الشيخ إبراهيم – الذي تعلّم عند عامود المسجد، وجعل منه منارة من نور. وأرانا مخطوطاً بخطه، حروفه كغيمة ممطرة في صيف عطش، متناسقة حتى يكاد القارئ يشم عبير المداد.
استعاد أمامنا محطات عمره؛ من مقاعد كلية التربية بجامعة الملك سعود، إلى وقوفه معلماً للغة العربية في متوسطة حطين – حيث التقينا أول مرة، هو معلم وأنا طالب – ومنها إلى الجزائر في منتصف السبعينيات (1974)، حين كان هواري بومدين يزرع العربية في أرض تتعافى من جراح الاستعمار. في عنابة كان مقره، وعمله في إحدى مدارسها، وكان السكن بيتاً للحوار، تنام فيه التيارات السياسية والفكرية وتصحو على جدل لا ينتهي. هناك، وُشِم بلقب “الرجعي” لأنه حمل لواء الثقافة العربية والإسلامية وسط موجة يسارية (تقدمية) وليبرالية (ديمقراطية) جارفة. وصف تلك السنوات الأربع بأنها أنضر بساتين عمره وأمتع أوقاته، ورأى في التعليم الجزائري آنذاك نظاماً نادراً ومتقدماً في فضاء التعليم العربي.
وحين انتهت المهمة عام 1978، عاد… لكن عبر رحلة تشبه أساطير البحّارة. اصطحب معه سيارته “البيجو” كرفيقة طريق، وأبحر بها إلى صقلية، ثم إلى إيطاليا، فالـيونان، ومنها إلى جزيرة كريت. ومن هناك وصل إلى قبرص، حيث كاد يقع في فخّ تذكرة تؤدي إلى ميناء حيفا المحتلة، لولا فطنة شاب صومالي نبّهه قبل فوات الأوان. عدّل المسار إلى اللاذقية، ومنها إلى دمشق، مروراً بحلب وحمص وحماة، ثم الأردن، حتى بلغ الحدود السعودية، لتتوقف السيارة في أشيقر – حيث ما زالت معه حتى اليوم – بعد شهر من الأسفار المبللة برائحة الموانئ، وازدحام مراكز الجوازات، وأنين العجلات على الطرقات.
عاد للعمل إدارياً في وزارة التعليم، ثم غادرها حين جاء التقاعد، ليقيم في مسقط رأسه أشيقر، بين كتبه وأوراقه. أصدر عدة دواوين شعرية ومجموعتين قصصيتين، كأنها أوعية ماء تحفظ ذاكرة الوشم وأشيقر، وتسكبها في قلوب القرّاء.
وفي ختام يومنا، تشرفنا بزيارة لمحافظ شقراء، الأستاذ عادل البواردي، رجل مثقف يفتح قلبه كما يفتح مكتبه، متحدثاً بعاطفة العاشق قبل لغة المسؤول عن المحافظة وأهلها ومستقبلها. وقبلها كنا على مائدة الفنان وعاشق شقراء الأستاذ محمد الحسيني على وجبة غداء عامرة بما لذ وطاب، وامتزج طعم الرز، بنكهة الفلفل الأحمر الذي أهدانا إياه بمناسبة مهرجان شقراء.
عُدنا إلى الرياض، والدكتور عبدالله الحيدري يقود المركبة، والرفاق أبو خالد والدكتور إبراهيم السماري والأستاذ طاهر بخش _ ينسجون من أحاديث الطريق خيطاً من ودّ، فيما كانت أشيقر تلوّح لنا من بعيد… كأنها وعدٌ مؤجَّل باللقاء.
كل عام وانتم بخير 2025
والسّرّ أن أبا يوسف قادر على أن يحوّل الحياة إلى رواية نابضة!
رحلة أدبية وتاريخية دافئة، تمزج حنين المكان بذاكرة الأشخاص، وتوثّق سيرة رجلٍ عاش للغة والتراث وعاد بهما إلى أشيقر كأنه يعيد الزمن إلى أصله.