حين تشرع العنود سعيد في كتابة روايتها «شجرة عارية»، فإنها لا تكتب حكايةً تُروى فحسب، بل تبني عالماً إنسانيًّا تتجاذب فيه النفس بين عطشها وقدرها، بين ما تبقى من الذاكرة وما يوشك أن يتلاشى في صمت الأيام.
إنها رواية تستدرج القارئ إلى تأمل الذات من خلال مراياها المتكسّرة، وتجعله يرى في هشاشتها قوّةً، وفي صبرها جمالاً، وفي انكسارها بذرة حياةٍ جديدة.
في «شجرة عارية» تتجلّى الكاتبة بقدرة سردية لافتة، تنسج اللغة كما تُنسج الحرير، وتمنح كل جملةٍ نكهةً من روحها. لغتها مشبعة بالإحساس، محمّلة بإيقاع داخلي ينساب في النص دون تكلف، حتى ليبدو الحزن فيها جميلاً، والوجع نبيلاً، والعزلة نافذةً إلى بصيرةٍ أعمق.تتحرك العنود سعيد داخل نصّها بوعيٍ فنيٍّ عالٍ، تعرف متى تصمت لتجعل القارئ يتحدث، ومتى تبوح لتفتح نوافذ التأمل.
شخصياتها ليست رموزًا جامدة، بل نبضٌ يسير على الورق؛ تحمل في حواراتها همّ الإنسان، وتبوح بوجعه دون صراخٍ أو ادعاء.
وقد أحسنت الكاتبة حين جعلت الفقد والبحث عن المعنى محورًا تتقاطع عنده الخيوط الإنسانية جميعها، فكانت الرواية مرآةً للنفس وهي تتقاطع مع الزمن والقدر والمصير.
ومن أجمل ما يميّز هذه الرواية أنها تُقرأ بعيونٍ كثيرة: فهي نصٌّ اجتماعي في ظاهره، فلسفي في عمقه، إنساني في جوهره.
وفي الوقت الذي تميل فيه بعض الأعمال الروائية المعاصرة إلى المبالغة في الرمزية أو الغموض، حافظت العنود سعيد على اتزانٍ سردي نادر؛ إذ ظلّت وفيةً للمعنى دون أن تفرّط في الجمال، ومخلصةً للعاطفة دون أن تبتذلها.
لقد استطاعت الكاتبة أن تُعيد للأدب الروائي صوته الصادق؛ ذاك الذي ينبع من التجربة لا من التكلّف، ومن الشعور لا من الصنعة.
فحين تطوي الصفحات الأخيرة من «شجرة عارية»، لا تشعر أنك أنهيت رواية، بل كأنك خرجت من تجربةٍ حياتيةٍ تمسّك بصدقها وتترك فيك أثرًا لا يُمحى.
إن «شجرة عارية» ليست شجرةً بلا ظلّ، بل هي ظلٌّ لروحٍ ظلت تقاوم العراء حتى أثمرت حكايةً من نورٍ وحنين.
ولعلها تُسجَّل ضمن الأعمال التي تذكّرنا بأن الرواية ليست مجرد جنس أدبي، بل فنٌّ لتعرية الإنسان أمام ذاته، وتطهيرٍ بالكلمة من غبار الواقع وضجيج الأيام.
الكاتبة العنود سعيد — في هذا العمل الناضج — قدّمت أدبًا رفيعًا يُعلي من قيمة الإنسان، ويمنح اللغة نبضها، ويؤكد أن الإبداع السعودي النسوي يسير بخطواتٍ واثقة نحو آفاقٍ أكثر نضجًا وعمقًا.



