رحل عبدالله بن فارس الفارس، آخر العنقود، وأحد الشهود الطيبين على زمن النقاء والمروءة. أغمض عينيه صباح الأربعاء ٢١ مايو ٢٠٢٥، تمام الثامنة صباحاً، لتغيب برحيله سيرة رجل عاش طويلًا في الظل، لكنه كان ضوءًا في حياة كل من عرفه. ودّعناه بعد صلاة العصر في مسجد المهيني، ومضينا به إلى مقبرة الشمال في الرياض، حيث وُوري الثرى بين دعوات المحبين ودموع من عرفوا جوهره النقي.
كان أصغر إخوته السبعة، ولهم أخت واحدة، الجوهرة، أطال الله في عمرها ومتّعها بالصحة والعافية. الشقيقة الغاليه، ورفيقة الدرب، تعهّدها بالقرب والوفاء، واختار أن يسكن في الحي نفسه قريبًا منها، يتفقدها في الغدو والآصال، كما كان دومًا قريبًا من والده ووالدته منيرة العساكر، حين لازمهما برًّا ورعاية، حتى وافاهما الأجل في منزله. فكان الابن الذي يُقال عنه: “لا يُسمع منه غير: سمّ، وحاضر، وأبشر”، لا يقولها مجاملة، بل بإيمان عميق أن برّ الوالدين باب الجنة الأقرب، وطريق التوفيق في الدنيا.
ضحّى بإكمال تعليمه ليكون في خدمة والده في مزرعتهم بالدرعية، وارتضى أن يُزرع في تربة الطاعة والرضا، فأينعت في قلبه براعم الخير والخلق والصفاء. ولعل ذلك ما جعله، حين ابتُلي في صباه بفقد إحدى عينيه، يظلّ شاكراً لله، حامداً على ما أُعطي وما سُلب. كان يقول لي: “أبصرت بعيني ما يكفيني، ثم أبصرت ببصيرتي ما لا تراه العيون.”
عمل بإخلاص نادر جعله محلّ ثقة الشيخ صالح اللحيدان، رحمه الله، فبقي في إدارته أمينًا لا يتبدّل حتى تقاعده. لم يكن الرجل صاحب مناصب، لكنه كان منصبًا من الله في قلوب الناس، يتقدّمهم بخلقه، لا بوجاهة ولا بمال.
عرفته قلوب الأحفاد كما عرفه الكبار. امتلأ بيته بالمحبة، وكان من أولئك الذين تقتدي بهم دون أن يلقوا موعظة؛ يكفيك أن تراه، أن تجلس معه، أن يحدّثك حديث الصديق، لتتعلّم الحياء والرحمة والوفاء.
وقدّر الله له أن يشهد الفقد تباعًا: أخًا بعد أخ، وأحبةً يتساقطون كأوراق الشجر في الخريف. حتى إذا استقر به الحال في حي الغدير، وبدا أنه يلوّح ببسمة التقاعد والسكينة، باغته الحزن بوفاة شريكة عمره، سارة بنت سعد الشبيب (أم أحمد). ثم اجتُثّ قلبه حين فُجع بوفاة ابنه البار أحمد وزوجته في حادثٍ مؤلم، لتتبعها فاجعة فقد ابنه الطيّب ماجد، رحمهم الله جميعًا.
كل هذا الألم لم يُطفئ نور قلبه. ظلّ يستقبل الزائرين على سرير المرض ببشاشة العافية وصبر الأولياء. بيته ظلّ عامرًا، وصوته رقيقًا، وذكرياته في الطائف والرياض تطرق أبواب الأحبة حتى من خلف أجهزة الجوال.
وفي لحظة الوداع، حين ازدحم المسجد بالمصلّين، أدركنا مرة أخرى أن الإنسان الطيب لا يرحل وحده، بل تُشيّعه قلوب كثيرة. الناس كانوا هناك: من عرفه، ومن لم يعرفه إلا بفعله، وكلهم يردّدون الشهادة في حقه، كأنما يوقّعون على صفحة رجل عاش نقيًا، وخرج من الدنيا نظيف اليد، عطر السيرة.
حتى خادمه الوفي “سرور” لم يتركه، لا في المستشفى ولا في البيت، يبيت على كراسي الانتظار، لا لشيء سوى أنه أحبّ صاحب الفضل، وأبى أن يتركه وحيدًا. وذلك من البركة التي يهبها الله لعباده الصالحين.
مات عبدالله الفارس (أبا أحمد)، لكنه ما مات في قلوبنا. ترك لنا ولأبنائه وأحفاده سيرة زكية وثرية، وميراثًا من الطيبة والبساطة والرضا. مات الرجل النبيل، الذي لم يعرف الحياة إلا بحسن العشرة، وصبرٍ جميل على نوائبها.
رحمه الله رحمةً واسعة، وبلّله بنورٍ من عنده، وأسكنه الفردوس الأعلى مع من أحبّ وأحبّوه.
إنا لله وإنا إليه راجعون.