واضح إن البلطجة مكتوبة علينا، كنا ضحاياها في الطفولة، وفي الكبر شهود عيان عليها، نكتوي بنار ضحاياها.
بعد المرحلة الإبتدائية إنتقلنا من القرية إلى المركز حيث المدرسة الإعدادية، المسافة كانت كيلو مترين، نقطعها يومياً سيراً على الأقدام، وإختصاراً للمسافة كنا نسير وسط الأراضي الزراعية ( تخريمة) لنصل إلى الخليج ( مصرف صغير ) ومنه إلى المدرسة، إختصار المسافة عرضنا لعمليات بلطجة لم نحسب لها، ففي نهاية الخليج كانت توجد ( عشة ) صغيرة، بجانبها حظيرة للمواشي ورفاعي، أما الحظيرة فكانت تخلو من المواشي، وأما رفاعي فكان يكبرنا بثلاثة أعوام على الأقل، ولأننا كنا نسير فرادى..كان رفاعي يستوقفنا ليجردنا من المصروف والسندوتشات وأحياناً الأقلام، نذهب إلى المدرسة محبطين، ونعود جوعى منهكين.
بدأنا نمشي ثنائيات ربما يهيبنا رفاعي، لكنه فاجأنا بتشكيل عصابي حيث ضم إليه ثلاثة في نفس عمره مسلحين بالعصي، وكان رفاعي مسلحاً بمسدس ( حبش ) يرعبنا صوته، وكأنه بندقية آلي، ويزداد رعبنا ونخرج مصروفنا بسهولة عندما يقلب رفاعي جفن عينه لنراه عفريتاً من عفاريت حواديت الريف في ليالي الشتاء المظلمة، ظل رفاعي وزملاءه يأكلون ما تصنعه أمهاتنا، و يترفهون بمصروفنا ، ويبدعون في ترويعنا حتى إستعنا بزميل ( قلبه جامد ) فنصحنا بأن نسير جماعات، وتقدمنا هو، وكان قد تسلح بحجر صغير، صوبه إلى رأس رفاعي الذي سقط على الأرض يبكي. شجعنا سقوطه على الإنقضاض على رفاقه، لنأخذ حقنا منهم ضرباً، إنكسرت شوكة رفاعي واختفى لأيام، ثم عاد إلى عشته، يختبئ كلما رآنا من بعيد.
إنتقلت من القرية إلى الدراسة الجامعية في القاهرة، سكنت في شارع صغير بمنطقة الطالبية بفيصل، ولم تكن الأقرب لجامعة القاهرة، لكن زملاء من قري مجاورة نصحوني بأنها الأفضل، وفي الشارع كان ( حمامة ) الذي أعاد إلى ذاكرتي رفاعي.
كانت الشقة التي نسكنها في الدور الأرضي، ننزل لها بثلاث سلمات، وكان حمامة لا يحلو له الجلوس إلا بجوار شباك شقتنا الذي يرتفع عن مستوى الشارع بمتر واحد، حمامة الذي لا يزيد وزنه عن ٥٠ كيلو كان عامل رعب للشارع ولنا بسيفه وطريقته في الكلام وتشكيله العصابي، حتى أنه حرمنا من فتح الشباك الذي كان المتنفس الوحيد في الشقة، ولأننا كنا غرباء على الشارع والمنطقة والقاهرة وبلطجة حمامة ( والغريب أعمى لو كان بصير ) كنا نحمل هم الخروج من البيت والعودة إليه، وعندما نسمع حمامة يهدد أحد ويقول له( هشقك نصين يا ابن …. ) كنا نهرب من الغرفة المفتوح شباكها على الشارع ونتكدس في الغرفة المطلة على المنور.
عدت يوماً من الجامعة فوجدت حمامة قد إنتقل بكرسيه من تحت الشباك إلى مدخل البيت دون أن يترك موضعاً لقدم، رجعت أمتاراً إلى الخلف وعيني على السيف المركون على الحائط، لملمت نفسي واقتربت منه : بعد إذن حضرتك يا أستاذ حمامة ممكن أدخل ؟ نظر حمامة بقرف ثم أشعل سيجارة وزحزح الكرسي قليلاً ودخلت، فكان ذلك بالنسبة لي إنجازاً.
كان حمامة حديث الصباح والمساء لي وزملائي، كيف لهذا الجسد النحيل أن يرعب كل سكان الشارع.
إختفى حمامة ثلاثة أيام، وعاد ليجاهر مع تشكيله العصابي بالإنجاز الذي حققوه وكم الغرز في رأس فلان وضهر فلان ورجل فلان من أفراد التشكيل العصابي في المنطقة المجاورة.
إختفى حمامة مرة أخرى، فقررنا تجديد هواء الشقة بفتح الشباك، وفجأة..سمعنا جري وصراخ في الشارع هرولنا إلى الشباك فوجدنا حمامة يقفز إلى داخل شقتنا والدماء تسيل من أنحاء جسده،
صاح أحد زملائي..هو فيه إيه ؟ ليرد حمامة المنهك..إقفل الشباك بسرعة يا يلا بدل ما أشقك نصين .
قفل زميلي الشباك لنفاجأ بالشرطة في الشارع، جاءت للقبض على حمامة بعد أن تمكنت من القبض على رفاقة.
كنا في حيرة..نسلم حمامة ونرتاح منه ولا نسيبه حتى لا يأذينا ؟
حمامة كان بيهددنا وهو مستخبي عندنا، لذلك قرر أحدنا أن يخرجنا من حيرتنا و ( رزع ) حمامة بالقلم، فتشجع الثاني وشتم حمامة، ليتحول الأستاذ حمامة إلى طفل مكسور يرجونا ألا نسلمه، لكننا سلمناه فارتحنا وارتاح أهله وارتاحت المنطقة منه.
والأن..أتحول من معايش للبلطجة وضحية لها في الطفولة والشباب إلى شاهد على البلطجة.
بلطجي زرع نفسه وعصابته في منطقتنا، إستولى على أرض الأشقاء وبيوتهم،تمادى في بلطجته، مسنوداً على زعيم عصابة أكبر منه، يخوف به تارة ويرغب به أخرى.
البلطجي الذي ورث من أسلافه حلم التوسع أخد درساً لن ينساه لا هو ولا عصابته عندما سرق بالقوة أرضاً ليست أرضه، فظهر طعفه وانكسرت شوكته،
بعد تعريته..إستخدم البلطجي حيل شتى ليفرق شمل جيرانه الذين إتحدوا ضده، وللأسف نجح.
لم يعد يتصدى للبلطجي إلا من كسر شوكته من جيرانه، وهذا زاده طغياناً وزادنا ألماً.
أعاد هذا البلطجي إلى ذاكرتي رفاعي وحمامة مع الفارق الكبير بينهم.
كنت أنتصر على رفاعي وحمامة في منامي، هكذا نحن..نهرب أحياناً من وهن وذل الواقع إلى الخيال حيث الهيبة ونشوة الإنتصارات.
إنكسر رفاعي وحمامة عندما إتحدنا وفطنا إلى حيلتهما في تشتيت شملنا، وها نحن نهرب إلى إنتصارات الخيال ونحن نيام، وفي اليقظة نهرب من لون الشاشات الأحمر إلى الدعاء لعل الجيران والأشقاء يفيقوا من غفلتهم، ويفطنوا إلى حيل ومكر البلطجي، ويلتفوا حول من كسر أنفه وأذله من قبل. هزيمة البلطجي في إتحاد ضحايا اليوم مع من سيكونوا ضحايا الغد.
كل عام وانتم بخير 2025