قصة حقيقية
في ليلة باردة من ليالي الدخيلة، جلست أم فوزي بجوار النافذة، كما اعتادت منذ سنوات. كانت عيناها لا تزال تبحثان عن وجهه بين العائدين. رغم مرور الزمن، لم تغلق باب الأمل تمامًا. “يمكن يكون لسة حيّ، يمكن يكون أسير، يمكن… يمكن…” لكن السنوات لم تُجب عن أسئلتها.
كان فوزي محمد عبد المولى أبو الشوك مجرد شاب بسيط، لم يكن يعرف من الدنيا سوى أسرته الصغيرة، وشارع حيّه، وحلمه بأن يكون رجلًا يحمي وطنه. خدم في حرب اليمن، ثم عاد ليستكمل حياته، وتزوج في إجازة قصيرة. ثم أرسلوه إلى سيناء، في تلك الأيام العصيبة من عام 1967.
وفي الخامس من يونيو، انقلبت الدنيا. كانت أصوات الانفجارات تعلو فوق كل شيء. الانسحاب كان فوضويًا، ولم يكن الجميع محظوظين في الوصول إلى الضفة الأخرى من القناة. بقي فوزي هناك، لم يعد. ربما قُتل في لحظة، أو عاش أيامًا وحيدًا وسط الصحراء، جائعًا، عطِشًا، يصارع الموت قبل أن تغطيه الرمال.
مرت الأيام، ثم الشهور، ثم الأعوام. لم يعد فوزي، ولم يكن هناك شاهد على قبره. ظلت صورته على جدران المنزل، تتحول من صورة لشابٍ عائد إلى صورةٍ لشهيد لم يُدفن. العروس خلعت خاتمها بعد سنوات من الانتظار، الأخ تحمّل أعباء العائلة وحده، الأم ماتت وهي تتمنى لو عرفت أين يرقد ابنها.
لكن القدر لا ينسى.
في صيف 2024، كان فريق بحث مدني ينقّب في منطقة الحسنة وسط سيناء. الرمال التي خبأت أسرارًا كثيرة كانت تستعد للكشف عن أحدها. تحت طبقات الصمت، ظهرت بقايا جندي. ملابسه، بطاقته، صوره، ذاكرته التي لم تُمحَ. في جيبه، صورة قديمة، كانت تحمل وجه أخيه عبد المولى شابًا في العشرين.
انتشرت الصورة على مواقع التواصل، ووصلت إلى الابن الذي لم يكن يعلم أن له عمًا. نظر إلى والده وقال:
— “يا بّا… إحنا كان لينا عم؟”
لمعت عينا الرجل المُسن، وأمسك بالصورة التي حملتها الرمال طيلة العقود الماضية. “فوزي!” نطقها بصوت متحشرج، وكأن الزمن عاد به خمسين عامًا للخلف.
تحركت القصة كالإعصار. الجهات المختصة استلمت الرفات، أجرت تحاليل الـ DNA، تأكدت النتيجة: هذا هو الجندي المصري فوزي محمد عبد المولى، الذي استشهد في النكسة.
واليوم، في سبتمبر 2024، سار الجثمان في جنازة عسكرية مهيبة. كان المشهد مزيجًا من الفخر والوجع. سار أخوه العجوز خلف النعش، يردد بصوت لم يعد يهتم بمن يسمعه:
— “أخيرًا… هترجع بيتك يا فوزي…”
في تلك اللحظة، لم يكن فوزي مجرد جندي عاد إلى أهله، بل كان شاهدًا حيًا، رسالة واضحة: “لا تنسوا العدو، لا تنسوا من غدر.”
في المساء، نامت الأسرة أخيرًا وهي تعرف أن ابنها لم يكن في طي النسيان. أما فوزي، فكان يرتاح في مثواه الأخير، محاطًا بمن أحبهم، بعد 57 عامًا من الضياع.


